الأحد، 2 أغسطس 2009

مذكرات الحاج على رزه الجزء الرابع




ملخص ما سبق (أشرنا فى بداية المذكرات إلى نشأة الحاج على رزة ونشأة جماعة الإخوان بالإسماعيلية وجهاد الإخوان بمنطقة القناة وسوف نستكمل بمشيئة الله عرض المذكرات ونشير الآن إلى بداية معرفة الحاج على بالإخوان )



بداية معرفتى بالإخوان
ظهرت بوادر الحرب العالمية الثانية سنة 1938 فدعت الدولة الشباب للتطوع فى فرق الوقاية من الغارات الجوية وفى فرق الاسعافات الأولية وتدربت فى هذه الفرق ثم التحقت بجمعية الإسعاف الأهلية وتوثقت صلتى ببعض الزملاء المتطوعين منهم الأستاذ سالم القاضى والحاج محمد سليمان والحاج عبد الفتاح إبراهيم والحاج عبد المقصود عطية وغيرهم وكنا نلتقى فى مقر جمعية الاسعاف وذات يوم دعانى الزميل محمد سليمان إلى منزله لتناول الشاى وحضر أ يوسف طلعت (رحمه الله ) الذى كنت أعرفه بحكم قرب السكن فى المحطة الجديدة وتحدثنا فى ذلك اليوم عن أحوال البلد وظهر فى كلامى إعجابى بألمانيا النازية فى ذلك الوقت وتدخل يوسف طلعت فى الحديث وقال لابأس من أن نعجب بألمانيا وقائدها هتلر ونرجوا أن تنتصر ألمانيا فى الحرب ولكن كيف يكون وضع بلدنا هل نستبدل مستعمرا بمستعمر ؟ أين دورنا كمسلمين ؟ أحتلت بلادنا ونهبت ثرواتنا وقتل منا الكثير واستبيحت أعراضنا .
يجب أن يكون لنا دور نعمل على إبرازه علينا تجنيد الشباب وإعداده ليقوم بالدور الذى يفرضه علينا إسلامنا لتحرير البلاد من الاستعمار عموما و العوده إلى عصور الحرية والكرامة . وكان هذا الحديث جديدا على لذلك طلبت منه المزيد وتساءلت عن كيفية العمل ووسائله وهنا بدأ يركز على ( رحمه الله ) وتقابلنا كثيرا وحدثنى عن دعوة الإخوان وأهدافها ووسائلها ومنذ ذلك الوقت اعتبرنى من الإخوان
العودة إلى عملى بالشركة البريطانية
رجعت إلى عملى بالشركة البريطانية بعد خروجى من المعتقل سنة 1949 وبقيت بالإسماعيلية بمعسكر الطيران لمدة عام تقريبا كلفت خلاله برسم خريطة وبيان للمخازن خصوصا مخازن الأسلحة وقمت بالمهمة على خير وجه حيث كنت أتجول فى المعسكر نهارا بحجة تقديم خدمات لمختلف المكاتب والمساكن الخاصة بالضباط وسهل مهمتى إيجادتى للغة الإنجليزية . وفى عام 1953 حضر إلى الإسماعيلية أحد ضباط المخابرات المصرية التابعين لعبد الناصر ( الذى وصل هو ورجاله إلى السلطة فى يوليو عام 1952 بفضل جماعة الإخوان وجهد رجالها ) وحضر هذا الضابط لمقابلتى للتنسيق للعمل ضد القوات البريطانية فى منطقة القناة وطلب منى الاتصال بالشيخ محمد فرغلى والشيخ يوسف طلعت ووافقناه على ذلك بعد توصية الشيخ عبده أحمد قاسم (سكرتير مساعد الجماعة فى ذلك الوقت ) ولأن محاربة القوات البريطانية من صميم أهداف الإخوان قدمنا مجموعة من فدائى الإخوان المدربين على حرب العصابات وقاموا بأعمال فدائية أزعجت القوات البريطانية على طول منطقة القناة وأبهرت رجال المخابرات لكنهم اعتقلوا الإخوان بعد ذلك على إثر حادث المنشية المدبر

مؤامرة ضد الإخوان
فى 25/11/1948 بدأت الحكومة المصرية فى إعتقال الإخوان على إثر إستجابة النقراشى باشا لتوصية سفراء الدول المعادية للإسلام (إنجلترا - فرنسا -أمريكا) اللذين إجتمعوا فى فايد بالإسماعيلية وطالبوا بإيقاف نشاط الإخوان وكان فى طليعة المعتقلين إخوان الإسماعيلية وبور سعيد وأُعتقلت فى هذة الدفعة ورحلنا إلى معتقل الهايكستب بصحراء العباسية ثم توالت الإعتقالات حتى شملت الألاف منهم كبار الإخوان وحددت إقامة الشهيد حسن البنا فى داره بالحلميه بجوار المركز العام ومنعت زيارته ولم يستطع أحد الإقتراب من منزله ثم رحلنا إلى معتقل الطور بعد أن ضاق بنا الهايكستب وأودعونا جماعات مقسمه على العنابر من الأول إلى السابع وإستمرت البواخر فى حمل دفعات أخرى من المعتقلين إلى الطور وكان أحد المشايخ من الإخوان يدعوا فى صلاة الفجر اللهم زدنا ولا تنقصنا وكانت الإستجابة سريعة فطلبنا منه أن يغير هذا الدعاء وبدأنا نتكيف مع الواقع الجديد ونشغل أوقاتنا بما يفيد فكونا مجموعات أنشطة متعددة رياضية وعلميه وترفيهيه وتم توزيع أعمال الخدمة على الجميع وفيهم الطالب والمدرس والتاجر والفلاح والجامعى وكان شعار الخدمة
(إخدم نفسك بنفسك) وعشنا وكأننا فى المدينه الفاضلة رغم قسوة الإعتقال وعدم توفير الحد الأدنى من الخدمات وفى يوم 12فبراير سنة 1949 أخبرنا الحراس من الهجانه أنهم سمعوا بمقتل الإمام البنا من الإذاعات وإنتشر الخبر سريعاً فى كل العنابر داخل المعتقل وحزنا حزنا شديدا منا من أصيب بالإغماء وسادة حالة من الإحباط فى صفوف المعتقلين ولكن العلماء من الإخوان اللذين كانوا معنا وأعضاء مكتب الإرشاد مثل الشيخ محمد الغزالى والشيخ الباقورى والبهى الخولى قاموا بدورهم
فى تهدئة النفوس وإرجاع الجميع إلى قضاء الله وقدره وأوضحوا أن المعركه بين الحق والباطل لن تنتهى حتى قيام الساعه وأن الله إختار لعبده حسن البنا الشهادة فى سبيله وفى سبيل إيقاظ الوعى الإسلامى فى أنحاء العالم الإسلامى وأن دعوة الإخوان لن تموت بقتل المرشد ولكن سيأتى بعدة من سيحمل الرايه ويستكمل المسيرة بفضل الله تبارك وتعالى وتكاتف الإخوان فى المعتقل وترابطوا وعزموا على مواصلة العمل حتى يأذن الله بالفرج وفى ذات يوم إستدعى قائد المعتقل حوالى ثلاثين من الإخوان وكنت أنا والشهيد يوسف طلعت والأخ مصطفى مؤمن والشيخ الغزالى من الثلاثين وأفهمنا القائد أن صدر قرار بإعتقالنا وليس لنا حق فى الشكوى أو التظلم وطلب منا التوقيع بالعلم وتقبلنا الأمر بصبر وثبات وهدوء لأنه الأمر كله لله وبدأنا نفكر فى مسار الدعوة فى المستقبل وكان معنا الكثير من أعضاء مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسيه للإخوان بالإضافة إلى الكثير من الإخوان الأتقياء الأنقياء مثل المرحوم منير الدله وعبد القادر حلمى والحاج عبدالله الصولى وحلمى نور الدين والطالب الجامعى مصطفى مؤمن رئيس إتحاد طلاب جامعة القاهرة وتوصلنا إلى أنه يجب أن نرشح شخصاً أكبر سنا وله حكمة الشيوخ فوقع الإختيار على المستشار حسن الهضيبى الذى كان على صلة قوية بالإمام الشهيد وكان يستشيره فى كل أمر يهم الجماعة وكان المستشار صبورا وحليما وقوى الحجه ملتزما بالأحكام الشرعيه فى كل ما يصدر من أحكام ورأينا أنه أنسب شخص لملئ الفراغ الذى تركه الإمام الشهيد فيجب أن نسعى إليه بعد خروجنا من المعتقل وقضية فى هذا المعتقل
( إحدى عشر شهراً) وخرجت فى أواخر ديسمبر 1949

تمثيلية المنشية
دبرت الحكومة حادث المنشية بالإسكندرية وإتهمت الإخوان بمحاولة إغتيال جمال عبدالناصر وإعتدت على ممتلكات الإخوان بالمحافظات وتوقعت أن يصل الإعتداء إلى الإسماعيلية فطلبت من قسم بوليس الإسماعيلية تعيين حراسة على الصيدلية التى كنت أعمل مدير لها ومستوصف الشهيد حسن البنا ولو بأجر وتمت الحراسة نهارا ومساءا وبعد ذلك جاءنى أحد أفراد هيئة التحرير والحرس الوطنى فى منتصف إحدى الليالى وأخبرنى بأنه صدرت أوامر من أحد ضباط الحرس الوطنى إلى مجموعتة بالقيام بتحطيم الصيدلية والمستوصف وأنه مستعد مع بعض زملائه بعدم تنفيذ الأوامر والتصدى لباقى أفراد المجموعه وإبادتها إذا وافقت على ذلك ولكنى طلبت منه أن يقوم هو وزملائه بالمطلوب وتنفيذ الأوامر مع الحرص على تقليل الخسائر وفعلا قاموا بتكسير الأقفال على الأبواب فقط ولكن ضابط الحرس الوطنى قام بالمعاينه ولم يعجبه ما حدث فقام بتكليف مجموعة أخرى بتحطيم المكانين ونفذت التعليمات فى الصباح ولما توجهت إلى الصيدلية وجدتها محطمة من الداخل والأدوية مبعثرة وتكسر منها الكثير والحارس غير موجود وذهبت لقسم البوليس لتقديم بلاغ إستقبلنى المأمور الذى كان مهموما جدا لما حدث وأخبرنى أن الشرطى المكلف بالحراسة إعتقلة شباب الحرس الوطنى وحبسوه فى مقرهم بجوار مدرسة طه حسين حتى تمت المؤامره وأفهمنى أنه لا يستطيع أن يحرر محضرا بالحادث فتوجهت إلى مقر نيابة الإسماعيلية بالشارع الثلاثينى ثم عدت لمنزلى فوجت ضابط البوليس السياسى فى إنتظارى وطلب منى مرافقته إلى مكتبه لمدت خمس دقائق وهناك ألقانى فى الحجز حتى المساء حيث تم ترحيلى فى حراسة مشددة إلى مجلس قيادة الثورة وكانت الساعة الثانية عشر ليلا وقادونى إلى داخل المبنى وفى الطرقات وجدت الكثير من الجثث العارية الملوثة بالدماء وصوت أنينها يكاد لا يسمع وكانت يدى مقيدة بيد الضابط رئيس الحرس الذى جاء بى من الإسماعيلية وأدخلنى فى حجرة مفروشة بالسجاد الفاخر وبها كرسى واحد جلس علية الضابط الحارس وجلست أرضا حاول الضابط تسليمى إلا أنهم رفضوا وتركونا إلى قبيل الفجر ثم أمروه إلى أن يذهب بى إلى سجن القلعة

( أيام مفزعة فى سجن القلعة)
إستلمنى الضابط النوبادجى وأخذ كل ما معى من نقود وكذلك المصحف والحزام والكرفاته ورباط الحذاء ولما رجوته أن يترك لي المصحف قال لى برفق - يشكر عليه-وهل جاء بكم إلى هنا إلا هذا المصحف؟!
وأدخلنى فى زنزانة فيها مياه عفنه بإرتفاع 30سم تقريبا والزنزانة قذرة ومظلمة فوقفت طويلا حتى أصبت بالتعب الشديد جلست فى الركن فى الماء القذر وكنت أرتدى بدلة ومعطفا فى الصباح ألقى لى رغيف واحد من فتحة الزنزانه وحاولت أن أمضغ كسرة منه فلم أستطيع وطرقت الباب وطلبت من الحارس شربة ماء فقال لى ليس مصروفا لى غير الرغيف وفى المساء أقيم إحتفال غنت فيه (أم كلثوم) ياظالمنى ضباط مجلس قيادة الثورة يرددون معها ويتمايلون والجثث ملقاه أمامهم دون مبالاه وفى ظهر يوم 2 نوفمبر سنة 1954 أخذتنى قوة الحراسة إلى مجلس قيادة الثورة وملابسى مبلله بالماء القذر ورائحتها عفنه وأدخلونى غرفة نظيفة مفروشة بالسجاد الملكى وكنت مقيدا بالحديد مع الحارس فطلبت منه دخول دورة المياه فسأل أحد عساكر البوليس الحربى عن ذلك فوافق ودخلت دورة مياة رائعة فإنتهذت الفرصة وقضيت حاجتى وشربت حتى إرتويت وغسلت وجهى ورأسى ولم يكن معى ملابس أخرى فبقيت فى ملابسى القذرة وخرجت وقيدنى الحارس فى يدة وجلست بجواره على السجادة وطال الإنتظار فغلبنى النوم فنمت واضعا رأسى أسفل الكرسى وإستيقظت على ركلت قدم عنيفه وقال لى ذلك الشخص (عرفت فيما بعد أنه على صبرى)
إنت نايم يإبن......... وسألنى هل تعرف الهضيبى فقلت له على الفور وأنا من الأرياف ولا أعرف الهضيبى ولم أره فى حياتى فشتم وتوعد وذكرنى بالجثث الملقاة فى الطرقات وقال هذا مصيرك وتركنى وإنصرف وفى حوالى الثالثة صباحا أخذنا 20 فردا فى سيارة شرطة بدون مقاعد ووضعنا فى سجن القلعة كل واحد فى زنزانة مليئة بالقاذورات والمياه والمخلفات البشرية وفى اليوم التالى للتحقيق وكنت قد وصلت إلى حالة من التعب والإجهاد والقرف ورغم ذلك لم أيأس أبدا من رحمة الله تبارك وتعالى وكنت ألمس رحمته سبحانه كأننى أمسكها بيدى فيطمئن قلبى وأفوض أمرى إلى الله ومر ما يقرب من شهر ثم حضر ثلاثة أفراد عرفتهم فيما بعد على صبرى ،صلاح الدسوقى ،محمد نصير وصرفوا الحراسة وأجلسونى فى ركن الغرفة وفوق رأسى لمبة كهرباء قوية جدا وأحضروا جريدة الأهرام وفى الصفحة الأولى منها صورة الشهيد يوسف طلعت وطلبوا منى قراءة الخبر المنشور عن رصد جائزة قيمتها 2000 جنيها لمن يرشد عن مكانه فقلت لهم إننى أقيم بالإسماعيلية ولم أرى يوسف طلعت منذ أكثر من ستة أشهر يوم أن هرب من يد ضابط البوليس السياسى حسن طلعت وأعتقد أنه لا يمكن أن يختفى فى بلد صغير مثل الإسماعيلية أو غيرها ولكن فرصتة فى الإختفاء تكون أكبر فى القاهرة ثم سألونى عن أفراد التنظيم السرى فقلت لهم أننى عضو مجلس إدارة الجماعة وأمين الصندوق وبحكم عملى فى التجارة ليس لدى وقت فى أى عمل سرى وبالتالى ليس عندى علم بالتنظيم السرى ثم سألونى أين توجد الأسلحة لديكم فتذكرت فى الحال أنه فى اليوم السابق مباشرة وعندما أخذت إلى مجلس قيادة الثورة رجوت الحارس أن يدخلنى دورة المياه رأيت أحد الإخوان يتوضأ لصلاة الفجر وسمعته يقول بصوت خافت(طرطور إعترف) وكرهها ثلاث مرات وكنت أعرف إن طرطور رحمه الله كان مسؤلا عن الأسلحة التى كنا نجمعها أثناء حرب فلسطين لذلك عندما سئلت عن الأسلحة نفيت علمى بها وربما كان إعتراف طرطور قد صرفهم عن التأكيد على هذا السؤال معى ولعا على صبرى إقتنع بكلامى لأنى كنت قد قابلته بمكتب ضابط المخابرات عبدالفتاح أبو الفضل عام 1953 أثناء تعاوننا معا فى قتال الإنجليز بمنطقة القناة وبقيت فى زنزانتى عشرة أيام حتى تم ترحيلى إلى السجن الحربى لتبدأ المأساة .

المأساه الإنسانية بالسجن الحربى
المكان رهيب والإذاء البدنى والنفسى على مدار اليوم (ليلا ونهارا ) لا حرمة لمريض أو شيخ كبير الجرى لساعات طويلة تحت لهيب الكرابيج السودانية المستورده خصيصا لذلك ومما يلفت النظر أننى وجدت بالسجن الحربى الكثير من الإخوان الذين سبقونا من أكثر من شهرين قبل حادث المنشية المزعوم وهناك كان الحراس يخرجوننا فى صفوف وأمامنا المرشد العام المستشار حسن الهضيبى بحيث يراه كل الإخوان ثم يفتحون ميكرفون السجن على أغنية أم كلثوم - ياجمال يامثال الوطنية أجمل أعيادنا الوطنية ... بنجاتك يوم المنشية ويؤمر الجميع بترديد الأغنية وكان الجنود يسيرون بين الصفوف ليسمعوا ترديد مقطع الأغنية والويل لمن يضبط صامتا والأستاذ المرشد يقف كالمايستروا يرفع يديه وكأنه يضبط الإيقاع ولكننا كنا نردد ياجمال يامثال الخسية .... أتعس أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية والحراس لا يدركون معنى الكلمات وكنا نتساءل مت ألفت هذه الأغنية ومتى لحنت وكيف أعدت من الألف إلى الياء وكنت أشاهد الإمام المرشد يبتسم وهو فى أعلى درجات العزة والشموخ وكان ذلك من دواعى تشجيع الإخوان صبرهم حيث أن قائدهم يتقدمهم ويجرى عليه ما يجرى عليهم رغم شيخوخته وضعف صحتة وتذكرت وأنا أنظر إليه حال رسول الله (صلى الله علية وسلم) حينما كان الصحابة يحتمون به عند إشتداد المعركة فالقائد الحق المخلص الذى يتقدم الصفوف ولا يتخلى عن جنوده حتى فى أحلك الظروف وقد أثبتت الأيام أن هذا الرجل بحق خير خلف لخير سلف ولا شك أن الدعوة قد كسبت برئاسته الكثير من الذيوع والإنتشار والترابط والثبات على الحق وتعرضنا فى السجن الحربى إلى أشد أنواع التعذيب وكان الضباط يحرضون الجنود ليعاملونا بكل قسوة ومهانة وكأننا من بلد أخر ولا حق لنا فى الحياة ويجب القضاء علينا فى حين أننا كنا نشاهد بعض المسجونين مكن غير المصريين معنا بالسجن الحربى يعاملون معاملة طيبه ويؤخذ بعضنا لتنظيف زنازينهم التى كانت مهيأة بالفرش اللازمة للمعيشة المريحة وكان الحراس يشرحون أحسادنا بالعصى والكرابيج ويسوقوننا بالضرب المبرح إلى حوش السجن الكبير لننظف الأرض ونسويها بأيدينا ثم نرش المياه وكان طابور الصباح فرصة لتشديد الإيذاء والضرب وكان الطعام لا يسمن ولا يغنى من جوع وبعض صغار الضباط حديثو التخرج فى قمة الزهو والغرور والسعادة عندما يسمعون عويل الإخوان عند التعذيب والضرب ومنهم من يتندر ويقول للأخ المضروب (خليك راجل) وهناك فهمنا حديث الرسول (صلى الله علية وسلم إخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم) وعرفت عن يقين لماذا كان الإخوان يقسون علينا فى الرحلات الكتائب حتى نصمت فى مثل ما حل بنا .
السجن الحربى دروس وعبر
رغم شدة المحنة رغم المعاناة والتعذيب إلا أننى إستفدت العديد من الدروس والعبر فلقد عرفت قيمة الحرية حيث ليس هناك أغلى من الحرية والكرامة فيجب أن يجاهد الناس لتحقيقها فى مجتمعهم وأحسست بأهمية التمسك بحبل الله المتين وتيقنت بأن الأمر كلة لله فالنفع والضر بيدة وحدة رغم أن طوابير الجرى كانت مجهدة وقاسية مع لسع السياط وضرب العصى إلا أنها كانت تنشيط لأجسادنا وتجديد الدم فى عروقنا وخروج عن برودة الزنازين وكنا نجوع جدا فكنا نلتهم أى طعام يقدم إلينا من ملح بالرمل أو فول بالسوس ونظرا لأن التعيين كان قليلا ثلاث أرغفه فى اليوم كنا نحتا على الحصول على بعض الخبز من فضلات قوة الحراسة التى كانت تلتهم 90% من الجراية لا سيما المطبوخات والفاكهة مثل اليوسفى والبرتقال الذى كان يوزع واحدة لكل ثلاث أفراد وبيضة أيضا لكل ثلاثة إسبوعيا وكنا نأكل قشر البيض وبعض أحجار الجير لنعوض نقص الكالسيوم اللذى يسبب لين العظام وتلف الأسنان وفى هذه الظروف كانت تشملنا رحمة الله وسخر لنا ربنا العصافير لتلتقط حشرة الأكلان التى كانت تمتص دمائنا ليلا وتسقط علينا من السقف لأننا قمنا بعمل بطانة من رغوة الصابون للحوائط مقاومة لهذه الحشرة وعند شروق الشمس كانت هذه الحشرة تأتى وتختبئ فى فتحة الشباك الخشبية أعلى الزنزانة فتلتقطها العصافير التى تآلفت معنا فمال كانت تخاف منا وفى الإعتقال ظهر الحب فى الله والإيثار فى أعلى صورة من أول لحظة حيث لم يكن معى ملابس عند دخولى المعتقل وفقدت حذائى فأعطانى أحد الإخوه جلبابا وأعطانى الأخر نعل حذاء ربطتة بظهر قدمى بفتلات من ملابس قديمة وجمى هذا النعل القدم من ظلط الأرض أثناء الجرى وكنت حينما أنظر إلى طوابير الإخوان وهم ضعفاء حفاة عراة أتذكر دعاء الرسول(صلى الله علية وسلم حينما كان يشاهد الصحابة وما هم علية من فقر وعوز يقول يارب إنهم جياع فأطعمهم وعراة فأكسهم وضعفاء فقوهم وأستجاب لهم ربه وأسبغ عليهم من فضله ونحن نقتدى بالرسول صلى الله علية وسلم ونطمع أن يشملنا برحمتة وفعلا أنزل الله علينا وافر العون والطمأنينة وكنا نتلقى الضربات والإيذاء الشديد بصب وأمل كبير فى نصر الله ومن النوادر المضحكة التى حدثت ونحن فى السجن الحربى ذات يوم جاؤا بالتعيين - وجبة العشاء - وكان سمكا مستوردا مسلوقا إسودت شوربته من طول الغلى وعندما وزع الحراس علينا التعيين إستأثروا (بجزل السمك) ووزعوا على الزنازين الشوربة السوداء ذات الرائحة الكريهة فلم يقربها الإخوان فإكتفوا بأكل الخبز فقط وبعد يوم مجهد من الجرى والتعذيب وفى حوالى الساعة الثانية صباحا سمعنا أصوات الترجيع والإستغاثة من كل إتجاة حيث أن السمك كان غير صالح فأصيب الحراس بالتسمم ومروا على الزنازين لإستدعاء بعض الإخوان لإسعاف الحرس وهكذا إنتقم الله من الحراس اللذين إلتهموا عشاء الإخوان وفى اليوم التالى لم نستدعى للطابور لأن كل الحراس كانوا فى حالة إعياء شديد
مكثت فى السجن الحربى حتى قبيل العدوان الثلاثى 1956 وتوفى والدى وأنا بالسجن ولم اعلم بوفاته إلا بعد سنة تقريبا حيث كانوا لا يسمحون لنا بالمراسلة ولا بالزيارة وعندما كنا بسجن القلعة كانوا يقيمون بعملية غسيل مخ مركز لنا بواسطة بعض المنتفعين اللذين باعوا كل القيم وتنكروا لدينهم وأخلاقهم من أجل قروش قليلة هى ثمن لخيانتهم ومساعتهم للباطل وتملقهم للظالم ونسوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنصر أخاك ظالما أو مظلوما فسأل الصحابة كيف ننصرة ظالما قال أن ترده عن ظلمة )
وخرجت من المعتقل فى أوائل مايو 1956 بعد عام ونصف من السجن ما بين السجن الحربى وسجن القلعة وفى العودة عندما وصلت إلى الإسماعيلية قابلت ضابط أمن الدولة الذى تركنى منتظرا من العصر حتى منتصف الليل ثم طلب من الإنصراف على أن أحضر إسبوعيا يوم الثلاثاء فى الثامنة صباحا حتى الثانية عشر ظهرا رغم أننى كنت فى أمس الحاجة للوقت لممارسة عملى فى التجارة ولكنى إحتسبت ذلك عند الله وشغلت وقتى هناك فى حفظ القرآن وترتيله وكنت تحت الرقابة الدائمة فالمخبر - رمضان- كان لا يفارقنى إلا ساعات النوم وإستملت المخبرين عن طريق المعاملة الحسنة ومناداتهم بلقب كبتن وإعطاءهم ما يشاءون من أقراص الأسبرين وخلافه واستمرت المراقبة فترة طويلة رغم أننى لم يثبت على أى عمل ضد الدولة أو مخالف للقوانين .
أعدها للنشر / خليل ابراهيم خليل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق